حداء النواعير في مسامع الشعراء
صفحة 1 من اصل 1
حداء النواعير في مسامع الشعراء
حداء النواعير في مسامع الشعراء
سمعنا عنينَها منذُ الصغر، وظلَّ مرافقاً لنا حتى الكبر...
وكم تعجبنا من بكائها الدائم، مع أنها ليست ثكلى فقدت ولداً، ولا أيِّماً فقدت زوجاً، ولا مفجوعةً فقدت أخاً!
وكم رأيتُ فيها ساعةً تدور وتدور، على مَرِّ الليالي والشهور، تقرِّبنا من الموت، وتبكي بكاء الفراق الطويل، فتُكثر من النَّحيب والعويلِ...
تسقي الأرض العطشى، وتئن أنينَ الثكلى...
يسمعها المسافرُ المشتاق فيشاركها في أحزانها، فينوح معها، وتنوح معه...
ولعلها في صوتها سرًّا و سحراً، فكم فجَّر هذا الصوتُ الشجيُّ قرائحَ الشعراء، وكم ألهمهم روائعَ القصائد، التي بقيت على مر الزمان! فقرأنا مثل هذا البديع:
وحنّانةٍ من غيرِ شوقٍ ولا وَجْدِ يَفِيضُ لها دَمعٌ كمُنتَثِرِ العِقدِ
أحنُّ إذا حنّتْ، وأبكِي إذا بَكَتْ فلَيسَ لنا مِن ذلك الفِعلِ مِن بُدِّ
ولكنَّها تَبكي بِغَيرِ صَبابَةٍٍ وأبكِي بإفراطِ الصَّبابةِ والوَجدِ
وأدمُعُها مِن جدولٍ مُستَعارَةٌ ودَمْعِيَ مِن عينِيْ يَفِيضُ على خدِّي [1]
وَكم تغنى بها الشعراءُ، ورأَوها قلباً رقيقاً، وعيناً دامعةً، وبلبلاً غِرِّيداً، وحمامةً نائحةً. فإذا كان الشاعرُ يحنُّ من الشوق المبرِّح والوجدِ، وله قلبٌ ينبض عاطفة وحباً وشوقاً، فالناعورة تحن مِن غير وجدٍ، وليس لها قلب، مما حدا بالمجنون أن يأتي بهذه الصورةِ الفريدة:
باتَتْ تَحِنُّ وما بها وَجْدُ وأحِنُّ من وَجْدٍ إلى نجْدِ
فدُموعُهَا تُسقَى الرّياضُ بها ودُموعُ عَيْني أَقْرحَتْ خَدِّي
وكذلك عبيدُ الله بنُ مسعود، عندما كان في الفرات، وسمع حنينَ الناعورة، جعل يشاركها البكاء، ولكنّ العجب أن الناعورةَ ليس لها عيونٌ، ودموعُها لا تُقرِّحُ الجفونَ!:
ولمَّا استَحَنَّتْ بالفُرَاتِ عَشيَّةً نَواعيِرُهُ كادَ الفؤادُ يَبينُ
تَحِنُّ بلا حُزْنٍ وشَوْقٍ أصابَهَا ولِلقَلْبِ من شَوْقٍ إليك حنينُ
سوَاءٌ بُكَاءُ العَيْنِ منّيَ والّذي بَكَيْنَ، ولكنْ ما لَهنَّ عُيُونُ
على أنّني - واللهِ - قد أَقْرَحَ البُكَا جُفونيْ ولم تُقْرَحْ لهنَّ جُفُونُ!
ومثلُه لأحد الأعراب:
ولمّا نَزلْنا الساحليْنِ تجاوبَتْ أباعِرُنا لمَّا ازدَهَتْهَا النَّواعِرُ
وحنَّتْ نَوَاعيرُ الفُرَاتِ بأرضِهَا فلمَّا استحنَّتْ جاوَبَتْهَا الأبَاعِرُ
إذا نَحْن أخْفَيْنَا الدَّفِينَ الّذي بنَا من الوَجْدِ نَمَّتْهُ الدُّمُوعُ البَوَادِرُ
وعندما نزل صاحبُ (الأنوارِ ومحاسنِ الأشعار) في أكناف العراقِ، هيَّجت نواعيرُ العراق أشجانَه، وأثارت شجونَه، فقال:
نَزَلْنَا بأكْنافِ العِرَاق فهيَّجَتْ نَواعيرُه أحزانَنا حينَ حنَّتِ
تحِنُّ وتسقي الرَّوْضَ ريًّا ولم تذُقْ هَوايَ الذي منهُ دُموعيْ اسْتَهلَّتِ
ولم تَعْرِفِ الشَّوْقَ الّذي في جَوانحي ولا حُرقاً بين الضُّلُوعِ اسْتكنَّتِ
ولو عَلِمَتْ ما قَد لَقِيتُ ومُلِّكتْ لِسَاناً لبَاحَتْ بالهَوَى وتَشكَّتِ
وأما أبو طالب الحُسين بنُ عليّ، فقد رأى في الدولاب مغترِباً يحن إلى أوطانه عندما قال:
كأنَ دُولابَها - إذْ حنَّ - مُغْتَرِبٌ ناءٍ يَحِنُّ إلى أَوْطَانِه طَربَا [2]
وهذا شاعر آخر يرى أن الناعورة، لم تفقد حبيباً، ولا فلذةَ كبد، وما ألمَّ بها الضر، الأزهار حولها تضحك، وهي تبكي، ثم شبهها بالفلك الذي تدور به النجوم:
ودولابٍ يئنُّ أنينَ ثكلَى ولا فقداً شكاهُ ولا مَضَرَّهْ
تَرى الأزهارَ في ضَحكٍ إذا مَا بكى بدُمُوعِ عينٍ مِنهُ ثَرَّهْ
حَكى فَلَكاً تَدُورُ به نجومٌ تؤثّرُ في سرائرنا المسرَّهْ
يظلُّ النجَّمُ يُشرِقُ بعدَ نَجمٍ ويَغرُبُ بعدما تَجرِي المَجرَّهْ [3]
ومن شعر عليِّ بنِ أحمدَ بنِ عبد الرحمن أبي الحسين الوقشي الذي يشنف الأسماع ويأخذ بالألباب:
حَننتُ إلى صوتِ النَّواعيرِ سحرةً وأضحَى فؤادِي لا يقرُّ ولا يَهدَا
وفاضَتْ دُموعي مِثلَ فيضِ دُموعِها أُطارِحُها تلكَ الصَّبابةَ والوَجْدَا
وَزاد غَرامي حِينَ أكثرَ عاذِلي فقُلتُ له: أَقصِرْ، ولا تقدحِ الزَّندَا
أهِيم بهمْ في كلِّ وادٍ صبابةً وأزدادُ معْ طُولِ المَعاد لَهُمْ وُدَّا [4]
وقد أراد بعضُ الشعراء، أن يُعللَ دوران الناعورة بتعليلٍ بلاغي، وجعلها تتكلمُ وتعترف، أنها عندما تدور فإنها تدورُ على قلبها الذي فقدتَه، ودموعُها تجري على جسمها، فها هو يقولُ:
وناعورةٍ قالتْ - وقد حالَ لَونُها وأضلُعُها كادَتْ تُعَدُّ من السُّقمِ -
أدورُ علَى قلبِي، لأنِّي فقدتُهُ وأمَّا دُمُوعِي فَهْيَ تَجرِي علَى جِسمِي [5]
والشاعرُ الخطيريُّ جعل الناعورةَ تعترف له بالسرِّ الدفين، الذي يُسيل منها العبراتِ، ويجعلها تئن وتبكي وتدور، فقال:
رُبَّ ناعورةٍ كأنَّ حبيباً فارقَتْهُ، فقد غدَتْ ليَ تحكِي
أبداً هكذا تئنُّ بشَجوٍ وعلى إلفِها تدُورُ وَتَبكِي [6]
ودائماً عندما تُذكَر النواعيرُ، تأتي إلى مخيِّلتنا، ومن غير استئذان، مدينةُ الجمال والطبيعةِ الخلابة والمناظرِ الجذابة، التي أبدعها الله جلَّ وعلا، تلك هي مدينةُ (حَماةَ) التي تغنّى بها الشعراء قديماً وحديثًا، وأكثروا في ذلك، ولكني سأقتصر على مثالين، الأولُ قديمٌ والثاني حديثٌ:
فها هو الشاعر أبو الحسن ابنُ عيد يقول في حماة:
حمى الله من شطَّيْ حماةَ مناظراً وقفتُ عليها السمعَ والفِكرَ والطَّرْفَا
تغنّي حمامٌ، أو تميلُ خمائلٌ وتزهى مبانٍ تَمنحُ الواصفَ الوصْفَا
وأشدو لدى تلكَ النَّواعيرِ شَدْوَها وأغْلبُها رقصاً وأُشبهُهَا غَرْفَا
تئنّ وتذرِيْ دمعَها.. فكأنَّها تهيم بِمَرآها، وتسألها العَطْفَا[7]
ولا أزال أذكر أنني عندما كنتُ في مصرَ، نظمتُ قصيدة في الشوق إلى حماةَ ونواعيرِها وعاصيها، وقد اخترت لك - أيها القارئ الكريم - منها هذه الأبيات:
أحنُّ إلى ربوعِ حَماةَ شوقاً وأذكُرُ ماضياً عَذباً جَمِيلا
نواعيرُ المياهِ بلا فُتورٍ تقلِّبُ في حَماةَ السَّلسَبِيلا
بعدْتُ وصوتُها وقعٌ يُدَوِّي يَصلُّ بمِسمَعِي دوماً صَلِيلا
يقول: كفاكَ تَرحالاً مَريراً يصيِّر كلَّ ذي عزٍّ ذليلا
ويا (عاصي)، جريتَ بدَمعِ عيني وطرفي كانَ مُسْودَّاً كحِيلا
فلا تعجبْ إذا ما الماءُ أضحَى ليومٍ فاحِماً يَجرِي كليلا
فإن البُعدَ جَفَّفَ لي المآقي ويأبى الكُحلُ إلا أنْ يَسيلا[8]
وهكذا نكون قد شاركنا النواعيرَ في عنينها، وشربنا من كأس أحزانها، وتعرَّفنا على بعض أسرارها، ورأينا كيف وصفها الشعراءُ فأبدعوا، ورأوا فيها مُهَيِّجَ الأحزان، ونديمَ الشوق والغرام.
ـــــــــــــــــــــــ
[1] المستطرَف في كلّ فنٍّ مستظرَف/ شهاب الدين محمد بن أحمد أبو الفتح الأبشيهي، ط3 - دار صادر، ص: 589.
[2] الأنوار ومحاسن الأشعار/ أبو الحسن الشمشاطي، بابٌ في النواعير وحنينها: 1/74.
[3] نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب/ المقري التلمساني، تحقيق: إحسان عباس، بيروت: دار صادر، ط1، 1968، طبعة جديدة 1997، باب في نبذة مما من الله به علي: 3/502.
[4] القرط على الكامل/ ابن سعد الخير، باب الطور الثاني: 1/8.
[5] المستطرَف في كلّ فنٍّ مستظرَف:589.
[6] المصدر السابق، ص:589
[7] نفح الطيب: الباب الخامس: 2/326.
[8] انظرها كاملة في ديوان: بَدْرُ الدُّجَىْ سيِّدُنا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم/ مصطفى قاسم عباس، ط1 - 1428هـ: ص 149 - 156.
سمعنا عنينَها منذُ الصغر، وظلَّ مرافقاً لنا حتى الكبر...
وكم تعجبنا من بكائها الدائم، مع أنها ليست ثكلى فقدت ولداً، ولا أيِّماً فقدت زوجاً، ولا مفجوعةً فقدت أخاً!
وكم رأيتُ فيها ساعةً تدور وتدور، على مَرِّ الليالي والشهور، تقرِّبنا من الموت، وتبكي بكاء الفراق الطويل، فتُكثر من النَّحيب والعويلِ...
تسقي الأرض العطشى، وتئن أنينَ الثكلى...
يسمعها المسافرُ المشتاق فيشاركها في أحزانها، فينوح معها، وتنوح معه...
ولعلها في صوتها سرًّا و سحراً، فكم فجَّر هذا الصوتُ الشجيُّ قرائحَ الشعراء، وكم ألهمهم روائعَ القصائد، التي بقيت على مر الزمان! فقرأنا مثل هذا البديع:
وحنّانةٍ من غيرِ شوقٍ ولا وَجْدِ يَفِيضُ لها دَمعٌ كمُنتَثِرِ العِقدِ
أحنُّ إذا حنّتْ، وأبكِي إذا بَكَتْ فلَيسَ لنا مِن ذلك الفِعلِ مِن بُدِّ
ولكنَّها تَبكي بِغَيرِ صَبابَةٍٍ وأبكِي بإفراطِ الصَّبابةِ والوَجدِ
وأدمُعُها مِن جدولٍ مُستَعارَةٌ ودَمْعِيَ مِن عينِيْ يَفِيضُ على خدِّي [1]
وَكم تغنى بها الشعراءُ، ورأَوها قلباً رقيقاً، وعيناً دامعةً، وبلبلاً غِرِّيداً، وحمامةً نائحةً. فإذا كان الشاعرُ يحنُّ من الشوق المبرِّح والوجدِ، وله قلبٌ ينبض عاطفة وحباً وشوقاً، فالناعورة تحن مِن غير وجدٍ، وليس لها قلب، مما حدا بالمجنون أن يأتي بهذه الصورةِ الفريدة:
باتَتْ تَحِنُّ وما بها وَجْدُ وأحِنُّ من وَجْدٍ إلى نجْدِ
فدُموعُهَا تُسقَى الرّياضُ بها ودُموعُ عَيْني أَقْرحَتْ خَدِّي
وكذلك عبيدُ الله بنُ مسعود، عندما كان في الفرات، وسمع حنينَ الناعورة، جعل يشاركها البكاء، ولكنّ العجب أن الناعورةَ ليس لها عيونٌ، ودموعُها لا تُقرِّحُ الجفونَ!:
ولمَّا استَحَنَّتْ بالفُرَاتِ عَشيَّةً نَواعيِرُهُ كادَ الفؤادُ يَبينُ
تَحِنُّ بلا حُزْنٍ وشَوْقٍ أصابَهَا ولِلقَلْبِ من شَوْقٍ إليك حنينُ
سوَاءٌ بُكَاءُ العَيْنِ منّيَ والّذي بَكَيْنَ، ولكنْ ما لَهنَّ عُيُونُ
على أنّني - واللهِ - قد أَقْرَحَ البُكَا جُفونيْ ولم تُقْرَحْ لهنَّ جُفُونُ!
ومثلُه لأحد الأعراب:
ولمّا نَزلْنا الساحليْنِ تجاوبَتْ أباعِرُنا لمَّا ازدَهَتْهَا النَّواعِرُ
وحنَّتْ نَوَاعيرُ الفُرَاتِ بأرضِهَا فلمَّا استحنَّتْ جاوَبَتْهَا الأبَاعِرُ
إذا نَحْن أخْفَيْنَا الدَّفِينَ الّذي بنَا من الوَجْدِ نَمَّتْهُ الدُّمُوعُ البَوَادِرُ
وعندما نزل صاحبُ (الأنوارِ ومحاسنِ الأشعار) في أكناف العراقِ، هيَّجت نواعيرُ العراق أشجانَه، وأثارت شجونَه، فقال:
نَزَلْنَا بأكْنافِ العِرَاق فهيَّجَتْ نَواعيرُه أحزانَنا حينَ حنَّتِ
تحِنُّ وتسقي الرَّوْضَ ريًّا ولم تذُقْ هَوايَ الذي منهُ دُموعيْ اسْتَهلَّتِ
ولم تَعْرِفِ الشَّوْقَ الّذي في جَوانحي ولا حُرقاً بين الضُّلُوعِ اسْتكنَّتِ
ولو عَلِمَتْ ما قَد لَقِيتُ ومُلِّكتْ لِسَاناً لبَاحَتْ بالهَوَى وتَشكَّتِ
وأما أبو طالب الحُسين بنُ عليّ، فقد رأى في الدولاب مغترِباً يحن إلى أوطانه عندما قال:
كأنَ دُولابَها - إذْ حنَّ - مُغْتَرِبٌ ناءٍ يَحِنُّ إلى أَوْطَانِه طَربَا [2]
وهذا شاعر آخر يرى أن الناعورة، لم تفقد حبيباً، ولا فلذةَ كبد، وما ألمَّ بها الضر، الأزهار حولها تضحك، وهي تبكي، ثم شبهها بالفلك الذي تدور به النجوم:
ودولابٍ يئنُّ أنينَ ثكلَى ولا فقداً شكاهُ ولا مَضَرَّهْ
تَرى الأزهارَ في ضَحكٍ إذا مَا بكى بدُمُوعِ عينٍ مِنهُ ثَرَّهْ
حَكى فَلَكاً تَدُورُ به نجومٌ تؤثّرُ في سرائرنا المسرَّهْ
يظلُّ النجَّمُ يُشرِقُ بعدَ نَجمٍ ويَغرُبُ بعدما تَجرِي المَجرَّهْ [3]
ومن شعر عليِّ بنِ أحمدَ بنِ عبد الرحمن أبي الحسين الوقشي الذي يشنف الأسماع ويأخذ بالألباب:
حَننتُ إلى صوتِ النَّواعيرِ سحرةً وأضحَى فؤادِي لا يقرُّ ولا يَهدَا
وفاضَتْ دُموعي مِثلَ فيضِ دُموعِها أُطارِحُها تلكَ الصَّبابةَ والوَجْدَا
وَزاد غَرامي حِينَ أكثرَ عاذِلي فقُلتُ له: أَقصِرْ، ولا تقدحِ الزَّندَا
أهِيم بهمْ في كلِّ وادٍ صبابةً وأزدادُ معْ طُولِ المَعاد لَهُمْ وُدَّا [4]
وقد أراد بعضُ الشعراء، أن يُعللَ دوران الناعورة بتعليلٍ بلاغي، وجعلها تتكلمُ وتعترف، أنها عندما تدور فإنها تدورُ على قلبها الذي فقدتَه، ودموعُها تجري على جسمها، فها هو يقولُ:
وناعورةٍ قالتْ - وقد حالَ لَونُها وأضلُعُها كادَتْ تُعَدُّ من السُّقمِ -
أدورُ علَى قلبِي، لأنِّي فقدتُهُ وأمَّا دُمُوعِي فَهْيَ تَجرِي علَى جِسمِي [5]
والشاعرُ الخطيريُّ جعل الناعورةَ تعترف له بالسرِّ الدفين، الذي يُسيل منها العبراتِ، ويجعلها تئن وتبكي وتدور، فقال:
رُبَّ ناعورةٍ كأنَّ حبيباً فارقَتْهُ، فقد غدَتْ ليَ تحكِي
أبداً هكذا تئنُّ بشَجوٍ وعلى إلفِها تدُورُ وَتَبكِي [6]
ودائماً عندما تُذكَر النواعيرُ، تأتي إلى مخيِّلتنا، ومن غير استئذان، مدينةُ الجمال والطبيعةِ الخلابة والمناظرِ الجذابة، التي أبدعها الله جلَّ وعلا، تلك هي مدينةُ (حَماةَ) التي تغنّى بها الشعراء قديماً وحديثًا، وأكثروا في ذلك، ولكني سأقتصر على مثالين، الأولُ قديمٌ والثاني حديثٌ:
فها هو الشاعر أبو الحسن ابنُ عيد يقول في حماة:
حمى الله من شطَّيْ حماةَ مناظراً وقفتُ عليها السمعَ والفِكرَ والطَّرْفَا
تغنّي حمامٌ، أو تميلُ خمائلٌ وتزهى مبانٍ تَمنحُ الواصفَ الوصْفَا
وأشدو لدى تلكَ النَّواعيرِ شَدْوَها وأغْلبُها رقصاً وأُشبهُهَا غَرْفَا
تئنّ وتذرِيْ دمعَها.. فكأنَّها تهيم بِمَرآها، وتسألها العَطْفَا[7]
ولا أزال أذكر أنني عندما كنتُ في مصرَ، نظمتُ قصيدة في الشوق إلى حماةَ ونواعيرِها وعاصيها، وقد اخترت لك - أيها القارئ الكريم - منها هذه الأبيات:
أحنُّ إلى ربوعِ حَماةَ شوقاً وأذكُرُ ماضياً عَذباً جَمِيلا
نواعيرُ المياهِ بلا فُتورٍ تقلِّبُ في حَماةَ السَّلسَبِيلا
بعدْتُ وصوتُها وقعٌ يُدَوِّي يَصلُّ بمِسمَعِي دوماً صَلِيلا
يقول: كفاكَ تَرحالاً مَريراً يصيِّر كلَّ ذي عزٍّ ذليلا
ويا (عاصي)، جريتَ بدَمعِ عيني وطرفي كانَ مُسْودَّاً كحِيلا
فلا تعجبْ إذا ما الماءُ أضحَى ليومٍ فاحِماً يَجرِي كليلا
فإن البُعدَ جَفَّفَ لي المآقي ويأبى الكُحلُ إلا أنْ يَسيلا[8]
وهكذا نكون قد شاركنا النواعيرَ في عنينها، وشربنا من كأس أحزانها، وتعرَّفنا على بعض أسرارها، ورأينا كيف وصفها الشعراءُ فأبدعوا، ورأوا فيها مُهَيِّجَ الأحزان، ونديمَ الشوق والغرام.
ـــــــــــــــــــــــ
[1] المستطرَف في كلّ فنٍّ مستظرَف/ شهاب الدين محمد بن أحمد أبو الفتح الأبشيهي، ط3 - دار صادر، ص: 589.
[2] الأنوار ومحاسن الأشعار/ أبو الحسن الشمشاطي، بابٌ في النواعير وحنينها: 1/74.
[3] نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب/ المقري التلمساني، تحقيق: إحسان عباس، بيروت: دار صادر، ط1، 1968، طبعة جديدة 1997، باب في نبذة مما من الله به علي: 3/502.
[4] القرط على الكامل/ ابن سعد الخير، باب الطور الثاني: 1/8.
[5] المستطرَف في كلّ فنٍّ مستظرَف:589.
[6] المصدر السابق، ص:589
[7] نفح الطيب: الباب الخامس: 2/326.
[8] انظرها كاملة في ديوان: بَدْرُ الدُّجَىْ سيِّدُنا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم/ مصطفى قاسم عباس، ط1 - 1428هـ: ص 149 - 156.
سدرة- عدد المساهمات : 162
تاريخ التسجيل : 30/12/2009
العمر : 32
مواضيع مماثلة
» النواعير والدهر - عبد المجيد عرفة
» عمر يحيى الفرجي .. شاعر النواعير
» محافظة حــمــاه أم النواعير مدينة أبي الفداء مدينة الربيع
» النواعير.. من "أحمد شوقي" إلى "جين هيرو"
» عمر يحيى الفرجي .. شاعر النواعير
» محافظة حــمــاه أم النواعير مدينة أبي الفداء مدينة الربيع
» النواعير.. من "أحمد شوقي" إلى "جين هيرو"
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى